فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} قال ابن جرير: أي: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود. وقال ابن كثير: أي: كذب وأوذي، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وهي العدة بالقيامة، وفصل الخصومة حينئذ؛ أي: لولا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بتعجيل العذاب: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58]، {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي: موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم، وإلا فالحق أجلى من أن يخفى. وقال ابن كثير: أي: وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم، لما قالوا. بل كانوا شاكّين فيما قالوه، غير محققين لشيء كانوا فيه، هكذا وجّهه ابن جرير. وهو محتمل. والله أعلم.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أي: من عمل بطاعة الله، فائتمرَ لأمره، وانتهى عما نهان، فلنفسه نفعه؛ لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن: {وَمَنْ أَسَاء} أي: عمل السيء وعصى.
{فَعَلَيْهَا} ضره؛ لأنه جنى على نفسه بذلك، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم و: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} أي: لا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، ولا يعذب أحدًا إلا بقيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي: لا يعلمها إلا هو. أو المعنى: إذا سئل عنها يقال: الله عالم بها: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} أي: أوعيتها: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} أي: مقرونًا بعلمه. قال الزمخشري: يعلم عدد أيام الحمل وساعاته، وأحواله من الخداج، والتمام، والذكورة، والأنوثة، والحسن، والقبح، وغير ذلك: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} أي: الذين كنتم تشركونهم في عبادتي: {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} أي: أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقرّ بها الآن. ف {شَهِيدٍ} فعيل من الشهادة، ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم، أو هو منهم إنكار لعبادتها، فيكون كذبًا، كقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} أي: يعبدون من الأوثان، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئًا: {وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} أي: وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجأون إليه من عذاب الله.
{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَاْن مِن دُعَاء الْخَيْرِ} أي: لا يمل من مسألته ربه بالخير، كالمال وصحة الجسم: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} أي: الضرّ في نفسه من سقم أو جهد في معيشته: {فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} أي: من روح الله ورحمته، ومن أن يكشف ما نزل به. قال الزمخشري: بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فعول، ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} أي: بتفريجها عنه: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي: حقي نلته بعملي، لا بفضل من الله، جحدًا للمنعم: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} أي: للحالة الحسنى من الكرامة، حرصًا ورجمًا بالغيب، وتلاعبًا بما شاء الهوى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} أي: فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل، بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو تخليدهم في النار.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَاْن أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} أي: إذا كشفنا ما به من ضر، ورزقناه غنى، وصحة، وسعة، أعرض عما دعي إليه من الطاعة، وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} أي: كثير، يديم تضرعه، ويستغرق في الابتهال أنفاسه. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء. كما يستعار له الطول أيضًا. فيقال: أطال فلان الدعاء، إذا أكثر. وكذلك أعرض دعاءه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} أي: القرآن: {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} أي: من غير نظر، واتباع دليل: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: من أضل منكم، فوضع الموصول موضع الصلة، شرحًا لحالهم وتعليلًا لمزيد ضلالهم، والشقاق الخلاف، لكون المخالف في شق، وجانب ممن خالفه. قال الشهاب: الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين، وختم السورة بما يلفت لفت بدئها، وهو من الكلام المنصف، وفيه حث على التأمل، واستدراج للإقرار، مع ما فيه من سحر البيان. وحديث الساعة وقع في البين تتميمًا للوعيد، وتنبيهًا على ما هم عليه من الضلال البعيد.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} يعني وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها، وظهوره على الناس تصديقًا للوعد: {وَفِي أَنفُسِهِمْ} أي: من غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم، وكما وقع في بدر وفتح مكة: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي: أن هذا القرآن، بوعده ووعيده، هو الحق الثابت؛ إذ في المطبوع: إذا لا برهان بعد عيان، فقد نصر الله رسوله وصحبه، وخذل الباطل وحزبه: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: لا يخفى عليه شيءٌ ما، مما يفعله خلقه، وهو مجازيهم عليه، ففيه وعد، ووعيد.
{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} أي: في شك عظيم من البعث بعد الممات، ومعادهم إلى ربهم: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي: فلا يخرج عن إحاطته شيء: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} هذا شوط جديد مع القلب البشري في مجال الدعوة. يبدأ بجولة مع آيات الله الكونية: الليل والنهار والشمس والقمر، وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله. وهما من خلق الله. ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه. ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة، كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله. إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية، ويجادلون في آياته القرآنية؛ وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية. وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة. ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان، وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر. ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله. وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك..
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.
وهذه الآيات معروضة للأنظار، يراها العالم والجاهل. ولها في القلب البشري روعة مباشرة. ولو لم يعلم الإنسان شيئًا عن حقيقتها العلمية. فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية. بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة، وفي الفطرة، وفي التكوين. فهو منها وهي منه. تكوينه تكوينها، ومادته مادتها، وفطرته فطرتها، وناموسه ناموسها، وإلهه إلهها.. فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق!
لهذا يكتفي القرآن غالبًا بتوجيه القلب إليها، وإيقاظه من غفلته عنها، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة، فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديدًا حيًا يقظًا يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور.
وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا. فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعورًا منحرفًا ضالًا فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة. ويقول لهم: إن كنتم تعبدون الله حقًا فلا تسجدوا للشمس والقمر..
{واسجدوا لله الذي خلقهن} فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين. والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه. ويعيد الضمير عليهما مؤنثًا مجموعًا: {خلقهن} باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصًا ذات أعيان!
فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات، وبعد هذا البيان، فلن يقدم هذا أو يؤخر؛ ولن يزيد هذا أو ينقص.
فغيرهم يعبد غير مستكبر: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}.
وأقرب ما يرد على القلب عند ذكر {الذين عند ربك} الملائكة. ولكن قد يكون هناك غير الملائكة من عباد الله المقربين؛ وهل نعلم نحن شيئًا إلا اليسير الضئيل؟!
هؤلاء. الذين عند ربك. وهم أرفع وأعلى. وهم أكرم وأمثل. لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض. ولا يغترون بقرب مكانهم من الله. ولا يفترون عن تسبيحه ليلًا ونهارًا {وهم لا يسأمون}. فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع؟
وهنالك الأرض أمهم التي تقوتهم الأرض التي منها خرجوا وإليها يعودون. الأرض التي هم على سطحها نمال تدب ولا طعام لها ولا شراب إلا ما تستمده منها.. هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}.
ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع. فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها. فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة. ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح، فجيء بالأرض في هذا المشهد، شخصًا من شخوص المشهد، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة..
ونستعير هنا صفحة من كتاب التصوير الفني في القرآن عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير:
عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر. وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها {هامدة}، ومرة بأنها {خاشعة}. وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير. فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان:
لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو:
وردت {هامدة} في هذا السياق: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} ووردت {خاشعة} في هذا السياق: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}.
وعند التأمل السريع في هذين السياقين، يتبين وجه التناسق في {هامدة} و{خاشعة}. إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض {هامدة} ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، يتسق معه تصوير الأرض {خاشعة} فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت.
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا، الإنبات والإخراج، كما زاد هناك، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود. ولم تجئ {اهتزت وربت} هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك. إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها. وهذه الحركة هي المقصودة هنا، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنًا، وكل الأجزاء تتحرك من حوله. وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير الخ.
ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجًا ودليلًا: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}.
ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجًا للإحياء في الآخرة، ودليلًا كذلك على القدرة. ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول، والحياة حين تنبض من بين الموات، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفيًا ينبض في أعماق الشعور. والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق.
وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة؛ فيكفرون بها، أو يغالطون فيها: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنًا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.
ويبدأ التهديد ملفوفًا ولكنه مخيف: {لا يخفون علينا}. فهم مكشوفون لعلم الله. وهم مأخذون بما يلحدون، مهما غالطوا والتووا، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس.
ثم يصرح بالتهديد: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنًا يوم القيامة}. وهو تعريض بهم، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين.
وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}. ويا خوف من يترك ليعمل فليحد في آيات الله. والله بما يعمل بصير.
ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد}.
والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم. فلا يذكر الخبر: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} كأنما ليقال: إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها!
لذلك يترك النص خبر {إن} لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حيكم حميد}.
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب. وهو صادر من الله الحق. يصدع بالحق. ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟